ماذا أعدَدْتَ لاستقبالي؟
يا إلهي..
موجة عارمة تدفّقت من شاشة الحاسوب وأغرقتني.
لحظتها، انهار السدّ، وأفلتت مياهه المحبوسة ثم أغرقت أرض السهل على اتّساعه.
امرأة سرقت لحظة ذهولها عدسة تسجّل الواقعة، عيناها تبحثان عن بقايا بيت كان قائماً منذ لحظات، قلبي كان في صدري منذ لحظات.!
قالت وطفلها متعلّق على كتفها:
ـ سمعت صوتاً كهدير الرعد، التفتُ، رأيت غولاً ضخماً طولـه أكثر من ثلاثة أمتار، وعرضه ـ أشارت بيديها ـ ولطمت وجهها.
أتجمّد أنا الآخر مذهولاً أمام الشاشة الصغيرة.
كدت أختنق، تنفّست بصعوبة، يكاد الماء يكتم أنفاسي.
ستأتي إذن..!
لكَ من تحيّاتي ما تشتهي..
وغابت الحروف في عفن الماء.
أنثى تعرف ماذا تريد، وماذا يريد واحد مثلي، تختصر المسافات بخطوة، وتقفز بكلمة، كلمة فقط فوق عمرٍ يمضي تافهاً سخيفاً تضيع على شطآنه الخائبة رغبات مكبوتة تنتظر بوح الآخر.
ما الفارق في أن تسألني أو أسألها؟ قالت:
أنت ملاذي، أحبكَ..!
ثم تدفّق ماء السدّ، رَكِبَت موجاته الهادرة، واكتسحتني، ثم أرسلت أنها ستأتي.
ـ الغداء جاهز.
زوجتي تنادي للمرة الرابعة، أطفال ابنتي الثلاثة يصرخون فرحين:
ـ جدّو، جدّو..
ماذا أعددتَ لاستقبالي..
لك من تحيّاتي ما تشتهي.. ن..!.
يا إلهي.
أيّ جنون هذا الذي يجري؟
منذ عشرة أيام كانت في مكان بعيد، ألف ميل يفصلني عنها، وكنت على سدّة عرشي أتنفس ريح الحبر وأشتاق إلى قلم لا يملّني، ولا يضيق بي ذرعاً.
منذ أتتني جفّ الحبر في أقلامي كلّها، وتعلّقت نبضات قلبي على لوحة مفاتيح جامدة يسجد واحداً بعد آخر تحت نقرات أصابعي، وأغلقت الشاشة الصغيرة متاريسها وأبقت على نافذة ضيّقة موصولة بخيوط مجنونة بيني وبينها.
أصابعي وأصابعها، أنا وهي فقط، وكلمات لا تنضب ولا تتوقّف.
أيّ جنون يغرقني في حالة عذبة أمتصّ سكّرها على مدار الساعة كأنني أتسلّق ظهر الكون ولا أتعب؟ تحملني رعشات..
من أين تأتيني؟
رعشات حالة لا أجرؤ أن أسمّيها.
ـ جدّو..
تشدّني يدها الشقراء الصغيرة.
كأنهم ثلاثة عصافير، يغرقون البيت زقزقات، ويملؤون فضاءه بصفق أجنحتهم.
ـ منذ الصباح لم تتناول غير القهوة، والسجاير، الله يلعن السجاير، الغداء جاهز وساخن.
تسكت قليلاً تنتظر صدى نداءها.
صغيراً كنت عندما سمعت لأول مرّة في حياتي آهة أنثى، كنت ضيفاً في بيت قريبة لأمي، حاولت أن أنام فجافاني الرقاد، نهضت، وقبل أن أدخل إلى الحمّام سمعت ما سمعت.
كنت صغيراً ففزعت، حسبت الرجل –زوجها- يضربها، تخيّلتها وهي تتلوى من الألم، تصرخ فيواصل ضربها.
في اليوم التالي سألت صلاح، نظر في وجهي نظرة بلهاء وابتسم، ثم راح يضحك، اقترب مني وهمس:
ـ يبدو أنك لم تكبر بعد
ثم استطرد وهو يواصل الضحك:
ـ سيأتي يوم تسخر فيه من غبائك..
يبدو أن زوجتي بدأ ينفد صبرها، عادت تردد جملتها المأثورة:
ـ هذا الرجل سيسقط ساكتاً على دفاتره.
ابنتي الفرحة هي الأخرى بزيارة بيت أهلها بعد غياب لم يدم أكثر من أيام تقول لها شيئاً، أسمع همسها، زوجتي تستدرك:
ـ بعيد الشر عنه، إن شاء الله يومي قبل يومه.
فأبتسم.
منذ الصباح ما دخلت جوفي غير القهوة، قهوة، قهوة.
ـ لو كنتُ كتاباً لاهتمّ بي أكثر، هكذا في كل يوم، ينشّف ريقي حتى أقوم وأجرّه جرّاً ليأكل.
منذ عشرة أيام يا عزيزتي.
أطلّت عليّ رسالة، كلماتها قليلة، سمعت صوتاً يتأوّه من بين السطور، يطلّ على ذاكرتي وينبش صدى آهات أخرى سمعتها وأنا صغير.
انتزعتُ عنوانَكَ من موقعك على الشبكة.
كانت صورتي، وكلماتي، وعنواني.
عرِفَتني إذن، رأت صورتي وتاج الشيب يكسوني، وقَبِلَتني.
سيّدي.. قرأت كتاباتك فَلَمَستُ في حروفها روحي، أنتَ سيد الكلمات، إنّي لذت إليك، أخيّرك بين الموت على صدري، أو بين أوراق الدفاتر الصفراء..!
ماذا سأختار يا عمري؟
يا سيّد الكلمات، أعشق همساتكَ، أذوب في بوحِكَ، هل أستطيع الدخول إلى عالمك.
سجينة بوحك.. ن...!..
لمستُ صدري بوجل، فأحسست بالطفل الساكن فيه يفكّ قيوده، فأمسكته.
من هذه الآتية من قاع المحيط؟.
سيّدي..
وأيقظت سيّداً يملك السطوة والسلطان أعرف أنه كامن في جوفي، كلماتي لمست روحها، فكيف لا أتركها تملك روحي؟
من أنتِ أيتها الآتية على حدّ الكلمات؟
هل تعرفين ماذا أصبت؟
كانت الأيام تحمل لي منها وتحمل لها منّي في كل ساعة رسالة.
صبيّة، حالمة، طموحة، أخذتها الغربة على حصان أبيض إلى بلاد الشمس والغبار، إلى كثبان ليس فيها إلا الفراغ، والكآبة، والانتظار.
من يصدّق أنني أحببتها؟
أنا لا أصدّق نفسي..!
أخرجتُها ألف مرّة من بين الكلمات، تحدّثتُ معها طويلاً، غرستُها في دمي، ولمستُها، وراء كل حرف مغموس بالعسل خرجت منها قطعة ذائبة، تجمّعت حتى تشكّلت أمامي..
رأيتها بين فنجان قهوة ونافذة وسكون في ليل طويل بارد، لا تقطعه إلا أنفاسٌ دافئةٌ تبحث وسط التعب عن صدر، عن ذراعين يغفران في دقيقة عناق، ظلم الغربة.
خطوات تروح وتجيء، تحكّ الأرض برتابة قاتلة علّها توقظ هذا الغافي.
وأنا وراء شاشة مربّعة صغيرة، أطيّر أهدابي وروحي ولهفتي لتبدّد وحدتها، أرسم منهم ذراعين يضمّانها إلى صدر ينتظرها وتنتظره، تستلقي يدي المعجونة بالكلمات على سواد شعرها، تتمرغّ على جبينها، تداعب حاجبيها وتستعد لتغوص في زيت عينيها.
هي، هي، حتى تلك النظرات الساحرة، تنعس كما لو توشك أن تلتقط الرعشة.
آه يا نون، ماذا فعلتِ بي؟
لكَ من تحيّاتي ما تشتهي.. ن...!..
تراني ماذا أشتهي؟
ألف نهد حط رحاله على صدري، وألقى مراسيه، وأشرق يرشف من لمس راحتي كأس انتصابه، وحين فَرَغت الكأس عاد الصقيع إليّ وإليه.
أمّا أنتِ، آه يا أنتِ..
لا أعرف أين تقفين على سلّم الجمال، ما لون شعرك، عيناك، شفتاك، قوامك، هذه التي حسبتها تأسرني في كل أنثى لم تعد أمام ماء القلب تعني لي شيئاً.
هل أطيرُ إليك؟
أستقبلكِ في المطار؟ تتقابل العيون فتخرس الكلمات؟
تقرئين على جبهتي لهفة اللقاء، وأخاف أن أقرأ على شفتيك لحظة الخيبة..
هل أضمّكِ؟ ترتمين على صدري، تعانقينني، أعانقك، يرتاح تعب سفرك على كتفي.
لا، لا.. لأترك لحظة اللقاء إلى وقت أفضل، في حديقة، أو في مقهى..
آه أيها المجنون، تعطيك ما تشتهي.
حسناً أسافر معها إلى مدينة بعيدة، يوم، يومان، ليلة، ساعة، نقيم في شقّة مفروشة.
ياه..
ليلة من ليالي العمر..
تطير العصافير مرّة أخرى
ـ جدّو، جدّو..
ـ الناس تكبر وهو يصغر.
ـ من؟
ـ أبوكِ.
وأرسلت نحوي نظرة مليئة بالسخرية، فغضضت طرفي.
تبتسم ابنتي بخجل وتتشاغل بأمر تافه.
ليلة أمس لم تنظر نحوي. عندما استلقيت بعد أن أوشك عقرب الساعة يقفز إلى الثالثة كانت إلى جانبي ووجهها إلى الحائط، سَحَبَتْ أصابعي الغطاء عنها برفق، وصبّ بريق جسدها في نبضي، رَكَضَتْ أصابعي وراء رغبة الطفل الطالع من صدري.
لم تتحرّك ولم تلتفت.
ـ أحبكِ
لم تتحرّك
ـ عيب يا رجل، كبرنا..
تزقزق العصافير، ويخبو بصيص ضوء كان يشعّ من عينيّ.
هذه المرأة الرائعة تتقن أشياء كثيرة، تهتمّ بأدق التفاصيل في حياتي اليوميّة، مظهري، صحّتي، طعامي، قهوتي، تحمل همّي وحزني وفقري، بارعة في رعاية بيتها وأولادها وأحفادها تجمعهم حولها وتحلّق بهم إلى أقصى فضاءات السعادة، أحسّ الفرحة في عينيها، فأفرح.
ولكن يا رفيقة عمري، ولكن..!
سأقول لها ساعة تحطّ رحالها على أرض وطني ووطنها، أحبكِ.
فتذوب بين ذراعي، تهمس بعذوبة، وأنا..
جسد حملته إلى صدري كلمات، كلمات فقط استطاعت أن توصل إلى وجعي عبر ألف ميل هذا الفيض من الشوق.
فكيف إذا تلاحمنا؟
ابنتي تقف مع أطفالها الثلاثة بالباب ليغادروا.
زوجتي تحشو في أكياس أشياء اشتهتها لابنتها.
وأنا..!؟
أتلهّف للعودة إلى قلمي وأوراقي، أختار عنواناً وخاتمة للقصّة الجديدة التي بدأت في كتابتها بعد أن لمعت فكرتها في رأسي عندما أوشكت عقارب ساعة الليلة السابقة تصل إلى مرفأ الرابعة صباحاً.